الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***
{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} الاعقاب: واحدها عقب، مؤخر الرِجل، نردّ على أعقابنا: نرجع الى الشِرك. استهوته الشياطين: ذهبت بعقله. الصور: القرن يُستعمل للفنخ، وقد استعمله الناس قدما. ويوم القيامة ينفخ في الصور، فيقوم الناس لرب العالمين. عالم الغيب والشهادة: الغيب ما غاب عنا، والشهادة ما نراه من خلقه. قال ابن عباس: هما السر والعلانية. القرآن الكريم في جميع مراحله يعرض الخير والشر للناس، يرغّب في الخير واتّباعه، وحيذّر من الشر وعواقبه، ويهدي الى الصارط المستقيم ومعنى الآيات: قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار: هل يصحّ أن نعبد غير الله مما لا يملك جَلْبَ نفعٍ ولا دفع ضر؟ وننتكِس فنُردَّ على أعقابنا بالعودة الى الضلال والشِرك بعد إذ هدانا الله الى الاسلام!!. ثم ضرب اللهُ مثلا يصوّر المرتدّ في أقبح حالة تتخيلها العرب وهي: {كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى ائتنا...}. أي: الذي غرّرتْ به الشياطينُ وأضلّته في الأرض، فصار في حَيرة لا يهتدي معها الى الطريق المستقيم، وله رِفقة مهتدون يحاولون تخليصة من الضلال، فهم ينادونه قائلين: إرجع الى طريقنا السوري، لكنه لايستجيب لهم. {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين}. أمر الله تعالى نبيّهُ الكريم أن يرغّب المشركون فيما يدعون اليه بلطف واسلوب حكيم. قل أيها النبي: ان الإسلام هو الهدى والرشاد، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا ما تدعون إليه من أهوائكم وأساطير آبائكم الاولين. وكل ما عدا هدى الله فهو ضلال لا فائدة منه. وقد أمَرَنا الله بالانقياد اليه، واتباع دينه القويم، فهو خالق العالمين. كذلك أمرنا الله باقامة الصلاة على اكمل وجه من الخضوع، وان نخاف الله ونتقيه حق تقاته، لأنه هو الذي تُجمَعون وتساقون الى لقائه يوم القيامة، فيحاسبكم على ما كسبتم. وهو وحده الذي خلق السماوات والأرض، وأقام خلْقها على الحق والحكمة. وفي اي وقت تتجه إرادته الى إيجاد شيء فإنه يوجده بكلمة «كن» ان قوله هو الحق ولاصدق، وله وحده التصرف المطلق يوم القيامة، حين يُنفخ في الصور فيُبعث من في القبور. عندئذٍ يقف الخلق بين يديه، لا تملك نفس لنفس شيئا والأمُر يؤمذ لله. وهو سبحانه الذي يستوي في علمه الغائب والحاضر، والسر والعلانية. وهو الذي يتصرف بالحكمة في جميع افعاله، ويحيط علمُه ببواطن الأمور وطواهرها، «فلا تَدْعوا مَعَ اللهِ أحَداً».
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} ابراهيم: خليل الرحمن، أبو الانبياء بعد نوح، والاسم أعجمي معناه ابو الجمهور العظيم، او أبو الأمة. أزر: ابو ابراهيم. قال البخاري: إبراهيم بن آزر، وهو في التوراة تارح والله سماه آزر. وقال كثير من المفسرين ان اسمه تارح، وآزر وصفّ له الضلال: العدول عن الطريق الحق. ملك الله وملكوته: سلطانه وعظمته جَنَّةُ الليل: ستره أفل: غاب بزغ القمر: طلع وجّهت وجهني: قصدت بعبادتي فطر السماوات: خلقها ومعنى فطر: شَقَّ الحنيف: المائل عن الضلال، المخلص في عبادته. بعد ان بين الله لنا ان عبادة غيره عبث وضلال، وأمَرَنا أن نسلم اليه، لأننا سوف نُحشر يوم ينفخ في الصور- جاءت هذه الآيات لتشرح الموضوع الأساسي لهذه السورة، وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الالوهية وحقيقة الربوبية، ومنا بينهما من ارتباطات. لكنه يعالج ذلك في اسلوب من القصص اللطيف. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}. اذكر ايها الرسول لهؤلاء المشركين، حين قال ابراهيم لأبيه آزر منكراً عليه عبادة غير الله: ما كان لك يا أبي ان تعبد الأصنام، وتتخذها الهة وهي لا تضر ولا تنفع إني أراك وقومك في ضلال ظاهر. {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض}. وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه فقد عمدنا الى أن نريّه مُلكنا العظيم للسماوات والارض- بما فيها من بديع النظام وغريب الصنع- ليقيم الحجة على المشركين، وليكون في خاصة نفسه من الراسخين في الايمان. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي} ثم فصّل سبحانه وتعالى كيف هداه الى الا يمان. فمال استنكر ابراهيم عبادة الأصنام طلب هداية الله، وأخذ يفكر في هذا الكون العظيم. وكان من أول أمره في ذلك انه لما أظلم عليه الليل، وهو يفكر في ملكوت الله- رأى كوكباً عظيما يقال إنه «المشتري» وكان قوم إبراهيم يعبدونه، فلما رآه قال: هذا ربي لكن النجم غاب فلما غرب قال إبراهيم مبطلاً لربوبية ذلك النجم: أنا لا أُحِب الآفلين، ولا اقبل عبادة الآلهة المتغّيرين. وفي هذا تعريض بجهل قومه في عبادتهم الكواكب. {فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين}. وحين رأى إبراهيم القمر طالعاً بعد ذلك قال محدّثا نفسه: هذا ربي فلما أفَل القمر، شأن ساقه الكوكب- قال ابراهيم مسمِعاً من حوله من قومه، ليوجّه نفوسهم الى الهداية: أٌقسِم إن لم يوفقني ربي لإصابة الحق في توحيده لأكونن من القوم الضالّين. {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ}. وفي هذه المرة الثالثة انتقل من التعريض الى التصريح بالبراءة منهم، والتصريح بأنهم على شِركّ بيّن، فقد ظهر له الحق غاية الظهور. ثم رأى ابراهيم الشمس طالعة بعد ذلك، فقال محدّثا نفسه: هذا ربّي، لأن اكبر مما يُرى من الكواكب قدراً، وأعظم ضياء ونوراً، فهو أجدر بالربوبية. بيد أنها أفلَت كما أفلَ غيرها. وعند ذاك صرح ابراهيم بما أراد التعريض به، وقال: يا قوم، إني بريء من هذه المعبودات التي تشركونها مع الله في العبادة. وبعد ان تبرّأ من شِركهم بيَّن لهم عقيدته، وهي عقيدة التوحيد الخالص التي هداه الله إليها، فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين}. إني جعلتُ توجُّهي في عبادتي لمن خلق السماواتِ والأرض مجانياً كلَّ سبيلٍ غير سبيله، ولستُ بعد الذي رأيت من دلائل التوحيد ممن يرضى ان يكون من المشركين. قراءات: قرأ يعقوب: آزرُ بالضم على انه منادى.
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)} حاجّهُ: جادله. السلطان: الحدة والبرهان. لم يلبسوا: لم يخلطوا الظلم هنا: الشرك في العقيدة او العبادة. بعد ان اطمأن قلب إبراهيم الايمان، جاء قومه يجادلونه فيما انتهى اليه من يقين، ليخوّفوه آلهتهم التي تنكّر لها. فظل صامداً يواجههم بيقين حازم، واعتمادٍ على ربه وخالقه الذي هداه. {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ...}. وجادله قومه في توحيد الله وخوفوه من غضب آلهتهم، فقال: لهم ما كان لكن ان تجادلوني في التوحيد بعد ان هداني الله الى الحق. أما آلهتكم التي تدْعونها فلا أخشاها، بل انها لا تضر ولا تنفع. لكن اذا شاء ربّي شيئا من الضر وقع ذلك، لأنه وحده القادر على كل شيء. ثم اتى ابراهيم بما هو كالعلة لما قبله فقال: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} واحاط بكل شيء. {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ؟}. أتُعْرضون أيها الناس عن قولي بعدما أوضحته لكم من أنَّ آلهتمكم ليس بيدها نفع ولا ضر، وتغفلون عن أن العاجز الجاهل لا يتحق ان يُعبد؟. {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً}. إنه لمن العجب أن أخاف ألهتكم الباطلة ولا تخافون أنكم عبدتم مع الله، الذي لا إله إلا هو، آلهةً باطلة!؟ {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. فأيّ فريق- أنا أم أنتم- في هذه الحال أحق بالطمأنية، واجدر بالأمن على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته ان كنتم تعلمن الحق وتدركونه!؟ {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}. هنا يأتي الجواب. وهو لا شكَ في ان الذين آمنوا بالله تعالى، ولم يخلطوا إمانهم بظلم عظيم، كعبادة احد سواه، هم الاكثر أمناً، كما انهم هم المهتدون الى طريق الحق والخير. روى ابن جرير قال ما نزلت هذه الآية: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شقّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ «فقال: رسول الله:» ليس كما تظنُون، وإنما هو كما قال لقمان لابنه: «لا تُشرِك بالله إنّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم». {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. هذه هي الحجة لاتي أعطيناهها ابراهيم لقيمها على قومه، فارتفع بها عليهم، وسينّتُنا في عبادنا ان نرفع بالعلم والحكمة من نريد منهم درجات، ان ربك يا محمد حكيمٌ يضع الشيء في موضعه، عليم بمن يستحق الرفعة ومن لا يستحقها.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} وهب: اعطى بغير عوض. هدينا. أرشدنا. احسن: فعَلَ ما هو حسن. اجتبينا: اصطفينا حبط علمه: بطل. بعد ان حكى الله تعالى أنَّ ابراهيهم اظهر حجة الله في التوحيد، وعدد وجوه نعمه واحسانه اليه، ذكر هنا انه جعله عزيزاً في الدنيا، وابقى له هذه الكرامة الى يوم القيامة. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا}. ووهبنا لإبراهيم إسحاق نبيّاً، ثم جعلنا من ذريته يعقوب وغيره من الأنبياء والمرسلين. وانما ذكر إسحاق هنا دون اسماعيل لأنه هو الذي وهبه الله تعالى لأبراهيم بعد كبر سنه وعقم امرأته سارة، جزاءَ ام ظهر من إيمانه في قصة ذبح ولده إسماعيل، ولم يكن له ولد سواه. {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ}. ووقفنا من قبلهم نوحاً الى مثل ما هدينا ابراهيم وذريته. وقد ذُكر نوح هنا إيماءً الى شرف نسب ابراهيم. {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين (*) وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين}. ومن ذريّة إبرايهم تناسل هؤلاء الأنبياء فقد ذكر في هذه الآيات سبعة عشر نبيّاً. وستأتي الاشارة إلى آخرين من ذرياتهم وآبائهم واخوانهم.. كل هذا ليدل على فضل إبراهيم ونوح عليها السلام، حيث جعل الله الكتاب والنبوة في نسلهما. وقد جاء في سورة الحديد، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} وهدينا من ذريته (إبراهيم) كلاً من داود وسليمان وغيرهما. فداود وسليمان وأيّوب وموسى وهارون، آتاهم الله الإمارة والملك مع النبوة والرسالة. وأيّوب كان أميارً غنياً محسنا ويوسف كان وزيراً عظيما وحاكماً متصرفا وموسى وهارون كانا حاكمَين ولم يكونا ملكين. وزكريا ويحيى وعيسى والياء، كانت لهم ميزة الزهد والاعراض عن لذات الدينا ومن ثم خصّهم بوصف الصالحين. واسماعيل وإليسع ويونس ولوط، وهؤلاء لم يكن لهم من ملك الدنيا ما كان للقسم الأول، ولا من المبالغة في الزهد ما كان للقسم الثاني. {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ}. وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم واخوانهم واصطفيناهم، فسلكوا طريق الخير والصراط الذي لا اعوجاج فيه. {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}. إن ذلك التوفيق العظيم الذي نالته هذه النخبة الكرام لهو توفيق من عند الله يُكرم به من يشاء من عباده. {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. ولو أشرك هؤلاء النخبة المختارة، لضاعت كل اعمال الخير التي عملوها، فلم يكن عليها ثواب. {أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ}. اولئك الذين آتيناهم الكتُب المنزلة والعلم النافع، وشرفَ النبوة، كما آتيناهم الحُكم، والقضاء بين الناس. فإن يكفر المشركون من أهل المكة بالكتاب والحكم والنبوة، فقد وفقنا للإيمان بها وتولِّي نصر الداعي اليها قوماً كراماً لن يكفروا، وهؤلاء هم مسلمو مكة، ثم الانصار في المدينة، ومن أسلم بعد الهجرة. وحُكْمُ هذه الآية مستمر وباق الى الابد ما دامت السماوات والارض. {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده}. أولئك الانبياء الثمانية عشر الذين ذكرت اسماؤهم في الآيات السالفة، هم الذين وفقهم الله وهداهم، فاتّبعهم أيها النبي أنت ومن معك واقتدِ بهم. {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ}. قل ايها الرسول لقومك، كما قال الانبياء لأقوامهم: إنني لا أسألكم على هذا القرآن أجراً من مال أو منصب، وما هو الا تذكير للعالمين، كل غايت من تبليغه ان ينتفع به البشر جميعا ويهتدوا بهديه. قراءات: قرأ ابن ذكروان، وحمزة والكسائي وخلق ويحيى، «رأى» بكسر الراء وامالة الهمزة. وقرأ ابو عمرو بفتح الراء وامالة الهمزة والباقون «رأى» بفتح الراء والهمزة. وقرأ اهل المدينة وابن ذكوان «اتحاجوني» بتخفيف النون والباقون «اتحاجوني» بتشديدها. وقرأ الكسائي «وقد هداني» بالامالة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف «اللَّيْسع» بتشديد اللام وفتحها وسكون الياء. والباقون «إلْيَسع» بسكون اللام وفتح الياء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب، بحذف الهاء في «اقتده» في الوصل، واثباتها في الوقف، والباقون بااثبات الهاء في الوصل والوقف.
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)} ما قدره الله حق قدره: ما عرفوه حق معرفته والقدر والمقدرا: القوة ايضا. والقدر الغِنَى والشرف. قراطيسك واحدها قرطاس، وهو ما يُكتب فيه من ورق أو جلد او غيرها ذرهم: اتركهم خوضهم: كلامهم بالباطل، وتصرّفهم الشائن، أم القرى: مكة المكرمة، لأنها قبله الناس، وفيها أول بيت وُضع للناس، فهي تعظَّم كالأم. بعد ان ذكر الله ما تفضل به على إبراهيم والانبياء الذين ذكرهم، وانه اجتباهم وهداهم الى الصراط المستقيم، وامر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يهتدي بهُداهم- جاء في هذه الآيات يندّد بمنكِري الرسالات، ويصفهم بانهم لا يقدّرون الله كما يجب، ولا يعرفون حكمته ورحمته وعدله. ومن ثم يقرّر أن الرسالة الأخيرة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم تجري على سنّة الرسالات قبلها، فالقرآن الكريم مصدّق لما سبقه من المكتب، وكلُّ من عند الله. {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ... الآية}. ما قَدّر هؤلاء الكفار الله حق التقدير، إذ أنكروا أن تنزل رسالتُه على أحد من البشر. فقل أيها النبي للمشركين ومن يشايعهم على ذلك من اليهود: إذنْ من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، نوراً يضيء، وهدى يرشد؟ إنكم ايها اليهود تجعلون كتابه في أجزاء متفرقة... تُظهرون منها ما يتفق وأهواءكم، وتُخفون ما يٌلجئكم الى الإيمان بالقرآن والنبي. هكذا مع أنكم علمتم منه ما لم تكونوا تعلمون، لا انتم ولا آباؤكم. وبعد ان بيّن سبحان انكار المنكرين للوحي بعبارة تدل على جهلهم، قال لرسوله: تولَّ إذن أيها النبي الجوابَ وقل لهم: إن الله هو الذي أنزل التوارة. ثمّ دعْهم بعد هذا فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم. ومن المؤسف ان هذا القول الذي قاله مشركو مكة في جاهليتهم إنما يقوله أَمثالهم في كل زمان بل منهم من يقولونه الآن، ممن يزعمون ان الأديان من صنع البشر، قد تطوّرت وترقت بتطور البشر في أحوالهم. وكثير من هؤلاء المثقفين على ايدي الأجانب، وكثير منهم يحتلّ مراكز كبيرة في الدول العربية والاسلامية غرّتهم الحياة الدنيا، وغرهم الغرور. {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ... الآية}. وهذا القرآن كتاب عظيما لقدر أنزلناه على خاتم رسلنا كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى. وقد باركنا فيه فجعلناه كثير الخير، دائم البركة، يبشر بالثواب والمغفرة، مصدّقاً لما تقدّمه من كتب الأنبياء، ومنذراً لأهل مكة من عذاب الله. فمن كان يؤمن بالقيامة فإنه يؤمن بهذا الكتاب. والمؤمنون به يحافظون على صلاتهم، فيؤدونها في اوقاتها كاملة مستوفاة. وقد خُصت الصلاة بالذِكر ههنا، لأنها عماد الدين. قراءات: قرأ ابو عمرو وابن كثير: «يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون» بالياء، والباقون «بالتاء» وقرأ أبو بكر عن عصام «لينذر» بالياء، والباقون «لتنذر» بالتاء.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} الافتراء: اختلاف الكذب. غمرات: واحدها غمرة، الشدة. اليوم: المراد به يوم القيامة عذاب الهون: الذل الهوان. فرادى: واحدهم فرد. خولناكم: اعطيناكم. وراء ظهوركم: لم تنتفعوا به تقطّع بينكم: انقطع ما بينكم من صلات ضل: غاب. بعد ان بين سبحانه أن القرآن كتاب من عند الله، وبذلك رد على الذين أنكروا إنزاله على محمد- قَفَّى هنا على ذلك بوعيد من كذَب على الله أو ادعى النبوة. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}. ليس امرؤ أشدّ ظُلماً ممن كذب على الله، او قال تلقيّت وحياً من عند الله كذبا وبهتاناً، كما فعل مسيلمة الكذّاب والأسوَد العنسي فيما بعد. {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله}. كذلك ليس أحد اشدّ ظلماً ممن قال: سآتي بكلام مثل هذا القرآن. وكان النضر ابن حارث بن كلدة، أحد كفار قريش، يقول: ان القرآن أساطير الاولين، وهو شعر لو نشاء لقنا مثله. كما كان يجمع الناس بمكة ويقول لهم: تعالوا: أحدّثكم بأحسن من حديث محمد. وقد أُسر النضر يوم بدرٍ وقُتل بعد ان انتهت المعركة، وجاءت أخته قتيلة، ويقال إنها بنته الى النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة ترثي أخاها وتعاتب الرسول الكريم منها: يا راكباً ان الأُثَيْل مظنة *** من صبح خامسة وانت موفق أمحدٌ يا خير ضِنْءِ كريمة *** في قومها والفحلُ فحل مُعْرِق ما كان ضرَّك لو مننتَ وربما *** منّ الفتى وهو المَغيظُ المحنّق الأثيل: بالتصغير موضع قرب المدينة. ضنء: نسل. قال ابن هشام في السيرة: ان النبي عليه السلام عند سماعها «قال: لو بلغَني هذا الشعر قبل قله لمننتُ عليه». {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملاائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ}. الخطاب للرسول الكريم، ثم لكم من سمعه أو قرأ ومعناه: لو تُبصر إذ يكون الظالمون في شدائد الموت، تحيط بهم كا تحيط غمرات الماء بالغرقى- رأيتَ ما لا قدرة للبيان على وصفه. اذنْ لرأيتَ الملائكة ينزعون ارواحهم من اجسادهم في قسوة وعنف. ثم حكمى سبحانه أمر الملائكة لهم على سبيل التكَم ولاتوبيخ حين بسطوا أيديهم لقبض أرواحهم «اَخرِجُوا أنفُسَكُم». {اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}. يؤمئذ يقال لهم: الآن تبدأ مجازاتكم بالعذاب المذلّ المهين، جزاء ما كنتم تقولون على الله غير الحق (كقول بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، وقول بعض آخر: إنه أوحي اليه، وما أشبهَ ذلك من الكفر والعناد)، وجزاء استكباركم عن النظر والتدبر في آيات الله الكونية والقرآنية. ثم ذكر الله تعالى ما يقوله لهم الله يوم القيامة بعد ذلك ما تقول لهم ملائكته فقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...}. لقد تأكدتم الآن أنكم بُعثتم أحياء من قبوركم، كما خلقناكم اول مرة، وجئتم إلينا منفردين عن المال والولد، تاركين وراءكم في الدنيا كل شيء كنتم تغترّون به. اننا لا نرى معكم اليوم أولئك الشفعاء الذين زعمتم انهم ينصرونكم عند الله، لأنهم شركاء له في العبادة... لقد تقطّعتْ بينكم وبينهم كل الروابط، وخابت آمالكم في كل ما زعمتم، فلا فداء ولا شفاعة، ولا يغني عنكم من عذاب الله من شيء.
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} الفلق: الشق. الحب: الحنطة، وكل انواع الحبون. النوى: واحدها نواة وهي بزرة التمرة والزبيبة. الإصابح: الصحب جعل الليل سكمنا: ليسكُن الإنسان فيه ويستقر. الحسبان: الحساب والتوقيت. المستقر: موضع القرار والاقامة. المتسودع: موضع الوديعة. خضرا: نباتا غضا اخضر. متراكبا: بعضه فوق بعض. الطلع: اول ما يظهر من زهر النخل قبل ان يشق عنه الغلاف. القنوان: واحدها قنو: العذِق وهو مثل العنقود من العنب. ذانية: قريبة التناول. ينعه: حين ينضج: تؤفكو: تضلون، تصرفون. بعد ان أثبت الله سبحانه امر التوحيد وثبّته، ثم أردف أمر النبووة والبعث، وردّ على منكري الوحي، وأوعدهم يوم الجزاء شراً- جاء هنا ليطلع الناس على آياته العظمى في هذا الكون العجيب. {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحيإن الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي}. ان دلائل قدرة الله على البعث، واستحقاقه وحده للعبادة، متوافرة متنوعة. فهو وحده الذي يشق الحب ويخرج منه النبات، ويشق النوى ويخرج منه الشجر. انه هو الذي يخرج الحي من الميت، كالانسان من التراب، والميتَ من الحي، كاللبن من الحيوان. ولقد اقترنت (فالقُ الحب والنوى) بآية (فالق الإصابح) وهي تدل على وجود الضوء والضلام، وان الضوء مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنمو النبات والاشجار. ذلك أن الحب والنوى بعد ان تُفلق نباتاً إنما تحتاج الى غذاء... وهذا الغذاء يتكون من عناصر الأرض الخِصبة، ومن ضوء الشمس، فجذور النبات تتغذى من الارض، وأغصانه واوارقه تتغذى من حرارة الشمس التي يؤذن بها الصباح. وهذه من قدرة الله وحده، فلا يقدر إلا الله أن يجهّز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة الى خلايا حية، او تحويل الخلايا الحية مرة اخرى الى ذارت ميتة. يقول الدكتور ايرفننج وليام في ماقل عنوانه: المادية وحدها لا تكفي، في كتاب «الله يتجلى في عصر العلم». «ان العلوم لا تستيطع ان تفسر لنا كيف تشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي تتكون منها جميع المواد. كما لا تستطيع ان تفسر لنا، بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها، كيف تتجع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكوّن الحياة. ولا شك ان النظرية التي تدّعي ان جميع صور الحياة الراقية قد وصلت الى حالتها الراهنة من الرقي، بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن، نظريةٌ لا يمكن الأخذ بها الا عن طريق التسلمي فهي لا تقوم على اساس من المنطق والاقناع». ويقول الدكتور البرت ماكوب ونشستر، التخصص في علم الاحياء، في مقال: العلوم تدعم ايماني بالله، من كتاب «الله يتجلى في عصر العلم». «لقد اشتغلت بدراسة علم الآحياء، وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدارسة الحية وليس بين مخلوقات الله اروع من الاحياء التي تسكن هذا الكون. انظر الى نبات برسيم ضئيل، وقد نما على احد جوانب الطريق. هل تستطيع ان تجد له تظيراً في روعته بين جميع ما صنعه الانسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ انه آلة حيّة تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل واطراف النهار، بالآف من التفاعلات الكيماوية والطبيعية. ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم، وهي المادة التي تدخل في تركيب الكائنات الحية. فمن أين جاءت هذه الآلةُ المعقدة؟ ان الله لم يصنعها هكذا وحدها، ولكنه خلَق الحياة، وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل الى جيل، مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بني نبات وآخر. ان دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أورع دراسات علم الاحياء، واكثرها اظهارا لقدرة الله. ان الخلية التناسلية التي يتج عنها النبات الجديد، تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها الا باستخدام المجهر. ومن العجيب ان كل صفة من صفات النبات، كل عرق، وكل شُعَيْرة، وكل فرع على ساق، وكل جذر أو ورقة- يتم تكوينها تحت اشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغا كبيرا، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي نشأ منها النبات!! تلك الفئة نم المهندسين هي فئة الكروموسومات (ناقلات الوراثة) ولك ذلك يتم بإذن الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وبقدر الله الذي تتم به كل حركة في الوجود كله». {ذلكم الله} ربُّكم مبدعُ المعجزة المتكررة ذات السر العجيب {فأنى تُؤْفَكُونَ}؟ فكيف تُصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والعيون! كيف تشركون به من لا يقدر على شيء من ذلك!؟. ويجيء ذكر معجزة انبثاق الحياة من الموت كثيرا في القرآن الكريم كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداءً- في معرض التوجيه الى حقيقة الالوهية، وآثارها الدالة على وحدة الخالق وقدرته. ويهدف ذلك الى تقويم تصور البشر بإعطائهم العقيدة الصحيحة. {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم}. هو الذي يجلو غبش الصبح بضوء النهار ليسعى الاحياء الى تحصيل أسباب حياتهم ومعاشهم، وجعل الله الليل سَكَناً يستريح المتعَب فيه من العمل بالنهار، وتسكن فيه نفسُه. وأكثر الأحياء من الإنسان والحيوان تترك العمل والسعي في الليل، وتأوي الى مساكنها للراحة. كما سيّر الشمس والقمر بنظام دقيق يعرف به الناس مواقيتَ عبادتهم ومعاملاتهم، وهذا النظام المحكم تدبيرُ من الله المسيطر على الكون، المحيط علمه بكل شيء، البعيد المدى في الابداع والاتقان، والذي قال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. قراءات: قرأ اهل الكوفة «جعل الليل سكنا» وقرأ الباقون «جاعل الليل». جعل: خلق النجوم: جمع نجم وهي الاجرام السماوية التي نرى كثيرا منها بالعين المجردة. والمراد بالظلمات ظلمة الليل، في اسفارنا برا وبحرا. ان الله هو الذي خلق لكم النجوم ايها الناس تستدلّون بها على الطريق فتسلكونها وتنجون من الأخطار في البر والبحر. فالله سبحانه وتعالى يذكّرها ببعض فضله علينا في تسخير هذه النيرات التي نراها صغيرة، لبعدها عنا، بعد ان سبق وذكَرنا ببعض فضله في الشمس والقمر اللّذين يبدوان كبيرين في أعين الناس لقربهما. وأقرب كوكب منا هو القمر، يبعد عن الارض بنحو مائتين وأربعين الف ميل، وهو يدور حول الأرض ويكمل دورته في ستعة وعشرين يوما ونصف يوم. وتبعد أرضنا عن الشمس ثلاثة وتسعين مليون ميل، وهي تدور حول محورها بسرعة الف ميل في الساعة، وتدور حول الشمس في دائرة مساحتها مائة وتسعون مليون ميل، وتستكمل دورتها في هذه الدائرة مرة واحد في سنة كاملة. وتوجد تسعة كواكب مع الارض هي: عطارد والزهرة والمّريخ وزحَل والمشتري واورانونس ونبتون وبلوتو، وكلها تدور حول الشمس بسرعة فائقة، بعضها يكلم دورة كاملة في ثمانية يوماً وهو عطار، اقرب الكواكب الى الشمس؛ وبعضها يكمل دورة كاملة في مدة مائتين وثمان واربعين سنة وهو بلوتو، أبعد الكواكب من الشمس. وهو يدرو في دائره مساحتُها سبعةُ بلايين وخمسمائة مليون ميل. وحول هذه الكواكب يدور واحد وثلاثون قمراً أخرى. وتوجد غير هذه الكواكب حلقة من ثلاثين ألفا من «النجيمات» وآلاف المذنبات، وشهب لا حصر لها ولكها تدور حول ذلك السيّار العملاق الذي نسميه الشمس، التي يبلغ قطرها: ثمانمائة وخمسة وستين الف ميل. وهي اكبر من الارض بمليون وربع ميلون مرة. ولا تشكّل هذه الشمس وما حولها من الكواكب المذكورة، والاقمار، والنجيمات، والشهب التي تشغل هذا المجال الواسع- ذرةً صغيرة في هذا المكان الواسع الذي لا يدركه عقل ولا بصر. ثم إن هذه الشمس ليست بثابتة او واقفة في مكان ما، وانما هي بدورها، ومع كل هذه الاجرام التي ذكرناها- تدور في النظام الرائع البديع بسرعة 600. 000 الف ميل في الساعة وفي هذا الكون الفسيح العجيب آلاف الانظمة غير نظامنا الشمسي يتكون منها ذلكم النظام الذي نسمّيه «المجرّات» او مجاميع النجوم، وكأنها جميعها طبق عظيم تدرو عليه النجوم والكواكب منفردة ومجتمعة، كما يدور الخذروف «البلبل» حين يعلب الاطفال. ومجرّات النجوم هذه تتحرك بدورها ايضا، فالجرّة التي يقع فيها نظامنا الشمسي تدور حول محورها بحيث تكمل دورةً واحدة كل مائتي بليون سنة صوئية 200. 000. 000. 000 وهذا شيء مذهل ومحيِّر لا تتصوره العقول. ويقدّر علماء الفلك أن هذا الكون يتألف من خمسمائة مليون من المجرات، في كل منها «مائة مليان» من النجوم، او اكثر او اقل. ويقدّرون ان أقرب مجموعة من النجوم، وهي التي نراها في الليل كخيوط بيضاء دقيقة والتي نسميها درب التبّانة، تضم حَيّزاً مداه ألف سنة ضوئية. وسرعة الضو 300. 000 الف كيلو متر في الثانية. وبمعرفة هذه الحقيقة يتبين لنا اتساع السنة الضوئية ومقدار زمنها، وكم تكون مسافة الف سنة ضوئية. انها شيء مذهل حقا، فوق تفكير البشر وطاقته. ونبعد نحن سكان الارض عن مركز هذه المجموعة بمقدار ثلاثين الف سنة ضوئية، وهذه المجموعة جزء من مجموعة كبيرة تتألف من سبع عشرة مجرة. وقطرة هذه المجموعة الكبيرة (ذات السبع عشرة) مليونان من السنين الضوئية. والحديث في هذا الموضوع طويل جدا، ومحيّر ومذهل. وحين ينظر العقل الى هذا النظام العجيب، والتنظيم الدقيق الغريب المدهش لا يلبث ان يحكم باستحالة ان يكون هذا كله قائما بنفسه، بل ان هنالك طاقة غير عادية هي التي تقيم هذا النظام العظيم، وتهين عليه. ولما في عالم السماوات وهذا الكون الذي بينا لمحة موجزة عنه- من بديع الصنع والنظام- ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. أي أنّا بينّا دلائل رحمتنا وقدرتَنا لقوم ينفعون بالعلم. فهو يوجّهنا إلى هذا الكون، وما فيه من حقائق مذهلة، تدفعنا الى التدبر والتذكّر. الله اجعلنا ممن ينتفعون بالعلم والمعرفة، وثّبت قلوبنا بالإيمان الصادق. وبعد ان بيّن لنا تعالى بعض آياته في هذا الكون العجيب ليذكّرنا بذلك، وبنبّه الناس من غفلتهم، عطف الحديث ليذكّرنا بآياته العجيبة في انفسنا. ذلك لأن الإنسان هو أعظم شيء في الوجود. {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}. الانشاء: ايجاد الشيء وتربيته. النفس: تطلق على الروح وعلى الشخص المركّب من روح وبدن. والنفس البشرية الأولى هي آدم، والله تعالى هو الذي أوجدَكم من أصل واحد هو أب البشر آدم. وتبدأ الحياة من حيوان صغير لا يُرى بالعين المجردة، فالنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، وهي مستقر لها في رحم الأنثى. ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار في هذه الارض التي هي مكان استقراركم في حياتكم، ومستودعٌ لكم، بعد موتكم. هكذا فصّلنا الآياتِ لقوم يفقهون، وبيّنا دلائل قدرتنا لقوم يفقهون ما يُتلى عليهم، ويدركون الأشياء على وجهها فالفقه هنا، وهو اعمق الفهم، ضروريٌ لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة التي يخرُج منها أشكال وألوان، فيهب الله لمن يشاء اناثا، ويهب لمن يشاء الذكور. قراءات: قرأ ابن كثير وابو عمرو: فمستقِر بكسر القاف والباقون بفتح القاف. {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً}. خضراً: أخضر قنوان: جمع قنو وهو الفرع الصغير في النخلة، ويسمى العذق والعِرجون وهو الذي يحمل الثمر. دانية: قريبة متدلية ينعهِ: نضجه. ثم ينقلنا الى مشاهد الحياة المتفتحة في جنبات الارض، فيذكر آية اخرى من آيات التكوين ويبين لنا دور الماء الظاهر في إنبات كل شيء. وهو الذي أنزل من السحاب ماءً فأخرج به نبات كل صنف، جاء بعضه غضّاً طريا، يخرج منه حبٌّ كثير بعضه فوق بعض. ون غبار طلع النخل تخرج عراجين محمّلة بالثمار قريبة سهلة التناول. كذلك أخرجنا بفضل الماء جناتٍ من الأعناب والزيتون والرمان، منها ما هو متشابه الثمر حين يثمر، والى نضجه كيف تم بعد اطوار مختلفة. ثم وازنوا بين صفاته في كل من الحالين، يتبين لكمن لطف الله وقدرته. أليس في ذلك دلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم لقوم ينشدون الحق؟! قراءات: قرأ حمزة والكسائي: ثمره بضم الثاء والميم، جمع ثمرة والباقون: ثمره بفتح الثاء والميم. بعد هذا العرض الواضح لدلائل وجود الله ووحدانيته وقدرته يبين لنا الله تعالى شِرك المشركين وأوهامهم وسخفهم، فيعقّب على ذلك كلّه بالاستنكار فيقول: وجعلوا لله شركاء...
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} خلق الكلمة، واختلقها، وخرقها، واخترقها: ابتدعها كذباً، والخلقُ فعلُ الشيء بتدبير ورفق بديع السماوات: خالقها ومنشئتها، والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء الادراك: الوصول الى الشيء، يقال: تبعه حتى أدركه البصر: حاسة الرؤية اللطيف: ضد الكثيف، واللطف في العمل: الرفق فيه. بعد ان ذكر سبحانه البراهين الدالة على توحيده بالخلق والتدبير في هذا الكون- ذكر هنا بعض انواع الشِرك التي كانت منتشرة عند العرب وكثير من الأمم، وهي اتخاذ شركاء لله من علام الجِن المستتر عن العيون. وهم لا يعرفون من هم الجن، ولكنها الوثنية هذا كما اختروعا لله نسلاً من البنين والبنات... لقد قالوا ان الملائكة والشياطين شركاء لله، وقد خلقهم الله جيمعا، فإذا كان هو الذي خلقكم فكيف يكونون شركاء له في الألويهة والربوبية!! {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ}. فقد قال مشركو العرب: ان الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عُزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله كل هذه الادعاءات لا تقوم على أساس من علم، بل هي الجهل المطبِق. {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ}. تنزّه الله تعالى عن كل نقص ينافي انفراده بالخلق والتدبير. قراءات: قرأ نافع وأهل المدينة «خرقوا» بتشديد الراء. {بَدِيعُ السماوات والأرض}. هنا يواجه كذبهم واختلاقهم بالحقيقة الالهية ويكشف لهم جهلهم وأوهامهم، فيقول: ان الله هو الذي انشأ السماوات والارض على غير مثال سبق، فكيف يكون له ولد، كما يزعم هؤلاء، مع انه لم تكن له زوجة، ولقد خلق جميع الاشياء بما فيها هؤلاء الذين اتخذوهم شركاء له، فكيف يخلقهم ويشاركون في القدرة على الخلق؟ انه هو عالم بكل شيء يحصي عليهم ما يقولون وما يفعلون. {ذلكم الله رَبُّكُمْ}. ذلكم الله المنزَّه عن كل ما يصفونه به، المتصف بصفات الكمال، لا إله غيره، خالق كل شيء مما كان ومما سيكون، فهو وحده المستحق للعبادة. فاعبدوه وحده. وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متوّلٍ جميع الأمور، يدبّر ملكه بعلمه وحكمته، فيرزق عباده، ويكلؤهم بالليل والنهار. {(*) لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار}. أي لا تُبصر ذاتَه العيون، لكنه يعلم الأبصار والبصائر، وهو الرفيق بعباده والخبير بخلقه فلا يخفى عليه شيء من أمرهم.
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} البصائر: جمع بصيرة، لها عدة معان: العبرة، والمعرفة الثابتة باليقين، والشاهد للأمر والحجّو، والقوة التي تدرَك بها الحقائق العلمية، وععقيدة القلب. أما البصَر فهو الذي تدرَك به الأشياء الحسية. والمراد بالبصائر هنا الآيات الواردة في هذه السورة أو القرآن كله بعد ان أقام الله الأدلة والبراهين الواضحة على توحيده وكمال قدرته وعلمه، قرّر هنا امر الدعوة والرسالة، وحدود تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لأوامر ربه، قل ايها النبي للناس: مِن خالقكم جاءتكم هذه الآيات البينات كدلائل تتبصرّون فيها من الحجج الكونية والبراهين العقلية، كيما تثبت لكم عقائد الحق اليقينة التي علهيا مدار سعادتكم في دنياكم وآخرتكم وأنتم أحرار بعد ذلك فمن أبصر فلنفسه قدّم الخير وبلغ السعادة، ومن عمي عن الحق، وأعرض عن سبيله، فعلى نفسه جنى إنني لست عليكم بمحافظ ولا رقيب.
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)} نصرّف الآيات: نأتي بها متواترة حالا بعد حال، مفسرين لها في كل مقام بما يناسبه. درس الكتابَ والعلم يدرسه درسا ودراسة ومدارسة: قرأه وتعلمه. يتجه الخطاب هنا الى الرسول الكريم، فيتحدث عن تصريف الآيات على مستوى لا يمكن ان يأتي به النبي الأُمّيّ من عنده. وفي ذلك إشارة الى أن المشركين يعلمون حق العلم ان النبيّ محمداً عاش بينهم ولم يدخل مدرسة، ولم يجلس إلى معلم، ومع هذا فهم يعاندون فيقولون: إن محمداً درس هذه القضايا العقيدية والكونية مع أحد أهل الكتاب. كيف هذا وما كان شيء من حياتك يا محمد خافياً عليهم، لا قبل الرسالة ولا بعدها! وكيف هذا وليس مِن أهل الكتاب من يعلم شياً على هذا المستوى! ان كتب أ÷لا لكتاب موجودة قائمة، والمسافة شاسعة بين ما فيها وما فيه هذا القرآن الكريم. ولا نريد ان نقول في هذه الكتب التي بين ايديهم شيئا، لكن علماءهم وكتابهم انتقدوها وبيّنوا كثيرا من زيفها وتحريفها. وقد صدر حديثا كتاب لعالم وطبيب فرنسي كبير هو الدكتور «موريس بوكاي» جعل اسمَه «القرآن والتوراة والانجيل والعلم» وفيه بيّن هذا العالم الكبير عبد دراسته التحليلة ان القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية والتاريخية، خلافاً للتوارة والانجيل. وهو يقول: «لقد اعتبر الاسلام دائماً أن هناك اتفاقاً بين معطيات كتابه المقدس والواقع العلمي. ولم تكشف دارسه نص القرآن في العصر الحديث عن الحاجة الى اعادة النظر في هذا. وسوف نرى فيما بعد ان القرآن يثير وقائع ذات صفة علمية. وهي وقائع كثيرة جدا، خلافاً لقلّتها في التوراة. وليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جداً لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية، وبين تعدّد الموضوعات ذات السمة العلمية وكثرتها في القرآن. وعلى سبيل المثال، نحن نجهل التاريخ التقريبي لظهور الانسان على الارض... لكنّنا لا نستطيع علمياً قبول صحة نص سفر التكوين الذي يورد أنساباً وتواريخ تحدّد أصل ظهور الانسان (خلق آدم) بحوالي 37 قرنا قبل المسيح... هذا فيما نستطيع ان نطمئن إلى أنه لن يمكن أبداً إثبات أن الإنسان قد ظهر على الارض منذ 5736 سنة كما يقول التاريخ العبري في 1975. وبناء على ذلك فإن معطيات التوراة الخاصة بقدم الانسان غير صحيحة. وان الدارسة التي نقدمها الآن تختص بما تُنبئنا به الكتب المقدسة فيما يتعلق بالظاهرات الطبيعية المتنوعة الكثيرة، والتي تحيطها تلك الكتب بقليل او بكثير من التعليقات والشروح. ولا بد من الملاحظة ان الوحي القرآني غني جداً في تعدُّد هذه المواضيع، وذلك على خلاف ندرتها في العهدّين القديم والجديد. لقد قمتُ أولاً بدارسة القرآن الكريم، وكان ذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة، باحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات- ان القرآن يذكر انواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة ادرتت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في لاعصر الحديث. وبنفس الموضوعية قمتُ بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل: أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب الى ابعد من الكتاب الأول، أي سِفر التكوين، حيث وجدت مقولاتٍ لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا. وأما بالنسبة للأناجيل فما نكاد نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة، ونعني بها شجرة انساب المسيح. ذلك أن نص إنجيل متّة يناقض بشكل جلي إنجيلَ لوقا. اذ أن هذا الاخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدَم الانسان على الارض. غير ان وجود هذه الامور المتناقضة وتلك التي لا يحتلمها التصديق، وتلك الآخرى التي لا تتفق والعلم- لا يبدو لي أنها تستطيع أن تضعِف الايمان بالله. ولا تقع المسؤلية فيها إلا على البشر. ولا يستطيع أحدا أن يقول كيف كانت النصوص الاصلية، وما نصيب الخيال والهوى في عملية تحريرها، او ما نصيب التحريف المقصود من قِبَل كتبةِ هذه النصوص، او ما نصب التعديلات غير الواعية التي ادخلت على الكتب المقدسة. ان ما يصدمنا حقاً في أيامنا هذه ان نرى المتخصصين في دراسة النصوص يتجاهلون ذلك التناقض والتعارض مع الحقائق العلمية الثابة، او نراهم يكشفون عن بعض نقاط الضعف ليحاولوا التستّر عليها، مستعيني في ذلك ببهلوانات جدلية. وسنقدم في هذا الكتباب أمثلة لاستخدام وسائل التستّر على التناقض او على امر بعيد التصديق، مما يسمونه «صعوبةً» استحياءً منهم، وأنه كان ناجحا في كثير من الاحيان. وهذا ما يفسر لنا كيف ان كثيراً من المسيحيين ظلوا يجهلون نقاط الضعف الخطيرة في كثير من المقاطع في العهد القديم وفي الأناجيل وسيجد القارئ في الجزئين الأول والثاني من هذا الكتاب امثلة صحيحة في ذلك. اما الجزء الثالث فسيد فيه القارئ أمثلة توضحيحية لتطبيق العلم على دارسة أحد الكتب المقدسة، وهو تطبيق لم يكن يتوقعه الانسان. كما سيجد القارئ في ذلك بياناً لما قد جاء به العلم الحديث الذي هو في متناول كل يد، من اجل فهمٍ أكملَ لبعض الآيات القرآنية التي ظلت حتى الآن مستغلقة او غير مفهومة. ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن الإسلام قد اعتبر دائما ان الدين والعلم توأمان متلازمان. فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءاً لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام. والواقع أن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى الى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الاسلامية. تلك الحضارة التي اقتان منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوربا. ان التقدم الذي تمّ اليوم، بفضل المعارف العلمية، في شرح بعض ما لم يكن مفهوما، أو بعض ما قد أسيء تفسيره حتى الآن، من آيات القرآن- ليشكّل قمةَ المواجهة بينالعلم والكتب المقدسة «. هذه مقتطفات مختصرة جداً من مقدمة هذا الكتاب الرائع الذي يقدّم لنا شهادة صادقة صادرة عن دراسة وبحثٍ بأمانة وحياد وشجاعة بدون تحيز ولا تعصب. {وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. وبمثل هذا التنويع في عرض الدلائل الكونية، نعرض آياتنا في القرآن منّوعة مفصّلة، لنقيم الحجة بها على الجاحدين، فلا يَجِدوا الا اخلاق الكذب، فيهتموك بأنك تعلّمت من الناس لا من الله. قراءات: قرأ ابن كثير وابو عمرو» دارست «وابن عامر ويعقوب» درستْ «بصيغة الماضي. هكذا بين سبحانه لرسوله ان الناس في شأن القرآن فريقان: فريق فسدت فطرتهم ولم يبقَ لديهم استعداد لهدية، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات، ومن ثم كان نَصيبهم منه الجحود والانكار. وفريق آخر اهتدى به وعمل بما فيه.. من ثَم أمر رسوله ان يتبع ما أوحي اليه من ربه، وان يُعرض عن المشركين، ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم. {اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين}. اتّبعْ أيها النبي ما جاءك به الوحي من الله، هو المعبود الواحد الذي لا شريك له فالتزم طاعته، ولا تبالِ بعناد المشركين وإصرارهم على الشرك. {وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}. ولو شاء الله ان يُلزمهم الهدى لهداهم، ولكنه تركهم لاختيارهم، فلقد خلق تعالى النّاسَ بهذا الاستعداد للهدى والضلال، {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} وما جعلناك يا محمد رقيباً تحصي عليهم اعمالهم، ولا أنت بمكلف أن تقوم عنهم بتدبير شئونهم وإصلاح أمرهم.
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} عدْواً: ظلما. بعد أن أمر الله تعالى رسوله الكريم بتبليغ وحيه قولاً وعملاً، وبالإعراض عن المشركين، وبيّن له أن سنة الله في البشر ان لا يتفقوا على دين واحد، لاختلاف استعدادهم وتفاوتهم في درجات الفهم والفكر- وجّه الحديث هنا الى المؤمنين طالباً منهم أن يقابلوا المشركين والمخالفين بأدب، فلا يسبّوا آلهتهم مخافة ان يحملوا المشركين على سبّ الله سبحانه. فقال: لا تسبوا الله تعدّياً وسفَهاً، كذلك زينّا لكل أمة عملَهم، كفراً وايماناً، حسب استعدادهم، ثم يرجع الجميع إلينا يوم القيامة ونجازيهم على أعمالهم بما يستحقون. قراءات: قرأيعقوب «عُدُوّاً» بضم العين والدال وتشديد الواو، والباقون «عدوا» بفتح العين وسكون الدال. والمعنى واحد.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} الطغيان: مجاوزة الحدود. يعمهون: يترددون في الضلال، والعمَهُ للبصيرة كالعمى للبصر. وأقسموا بالله بأقصى أيمانهم أنْ لو ظهرت لهم معجزة مادّية يرونها بأعينهم لآمنوا، فقل لهم ايها النبي: إن الله يُظهر الآيات متى شاء لا حسب رغباتكم بل ما يدرك أنهم لن يؤمنوا حتى لو ظهرت! هكذا فعل أسلافهم. ونقلّب قلوبهم وعيونهم فلا يعقلونها، ولا يبصرونها فلا يؤمنون بها كما لم يؤمن آباؤهم بالحق اول مرة، وندعهم في ظلمهم وظغيانهم يترددون. هنا انتهى الجز السابع، والحمد لله الذي هدانا لهذا، اللهم ثبت افئدتنا وابصارنا على الحق واحفظنا واهدنا الصراط المستقيم.
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)} قُبُلاً: مواجهة ومعانية، وبعضهم قال: قبلا جمع قبيل، يعني قبيلا قبيلا. الشيطان: المتمرد العاتي من الجن والانس. يوحي: يعلم بطريق خفي. الزخرف: الزينة، وكل ما يَصْرِف الساع عن الحقائق الى الأوهام. الغرور: الخداع بالباطل. تصغى: تميل الفعل الماضي صَغِي يصغى. اقترف الذنب: ارتكبه، واقترف المال اكتسبه. العدو: ضد الصديق، يطلق على الجمع والمفرد. بعد ان بين سبحانه في الآيات السابقة ان مقترحي الآيات الكونية أقسموا بالله لو جاءتهم آية ليؤمنن بها، وان المؤمنين ودُّوا لو أجيبَ اقتراحهم، وبيّن المخادعة في ذلك الاقترح- فصّل هنا ما أجملَه في قوله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة.. الآية}. وهذه الآيةُ متعلقة بما كان يقترحه مشركو العرب على الرسول منا لخوارق فيكون المعنى: ان اولئك الذين أقسموا ان يمؤمنوا اذا جاءتهم أيةٌ قومٌ كاذبون. فحتى لو نَزّلنا إليهم الملائكة يرونهم رأي العين، وكلّهم الموتى بعد إحيائهم واخراجهم من قبورهم، وجمعنا لهم كل شيء مواجهةً وعياناً- لظلّوا على كُفْرهم، ما لم يشأ الله تعالى أن يؤمنوا. إن اكثر هؤلاء المشركين يا محمد يجهلون الحق، قد امتلأت قلوبهم بالحقد والعناد. قراءت قرأ نافع وابن عامر «قِبَلاً» بكسر القاف وفتح الباء، والباقون «قبلا» بالضم. قال ابن عباس: كان المستهزئون بالقرآن خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاصي ابن وائل السهمي، والأسودَ بن يغوث الزُّهري، والأَسود بن المطلب، والحارث بن حنظلة: أتوا رسول الله في رهط من أهل مكة وقالوا: أرِنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله، او ابعثْ بعض موتانا حتى نسألهم: أحقُّ ما تقول أم باطل؟ او ائتنا بالله والملائكة قبيلا. فالآية ترد عليهم باطَلهم وتعنتهم. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ}. ومثلما أن هؤلاء عادَوك يا محمد وعاندوك رغم أنك تريد هدايتهم فقد واجه كل نبي جاء قبلك أعداء مثلهم. وكانوا من الإنس والجن، يوسوس بعضهم لبعض بكلام مزخرف لا حقيقة فيه، فيشحنونهم بالغرور والباطل. وكانوا يفعلون ذلك بطرق خفيّة لا يفطن الى باطلها إلا قليل. ولو شاء الله ما فعلوه، لكن ذلك كله بتقدير الله ومشيئته، لتمحيص قلوب المؤمنين. فاترك يا محمد الضالين وما يفترون من كذب، وامضِ لشأنك، فالنصرُ لك آخر الأمر. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}. ان قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لَتستمع الى ذلك الخداع والقول المموَّه بالباطل فهؤلاء يحصُرون همَّهم كلّه في الدينا، ويعتقدون أن الحياة هي الدنيا فقط، وينالون أبتاع النبي بالأذى. {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}. يعني: تميل افئدة المشركين الى الباطل وترضاه وتخضع للشياطين، ومعجبين بزخرفهم الباطل، فليرتكبوا من هذه الدسائس ما هم مرتكبون فانهم لن يضروك بشيء.
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} الحكم: من يتحاكم الناس اليه. مفصّلا: مبينّاً فيه الحلال وكل ما يحتاجه البشر من الأحكام. الممترين: الشاكّين. كلمة ربك: القرآن الكريم. تمام الشيء: انتهاؤه الى حد لا يحتاج الى شيء خارج عنه وتمامها هنا كافية وافية... والصدق في الإخبار ومنها المواعيد، والعدل يكون في الاحكام لا مبدّل لكلماته: لا يتغير فيها. ذَكَر الله هنا المبدأ الاسلامي الأول وهو مبدأ حق الحاكمية المطلقة لله وحده، وتجريد البشر من ادّعاء هذا الحق او مزاولته في أي صورة من الصور، كما بيّن أنه أنزل القرآن الكريم، وهو الآية الكبرى، وأقوى الأدلة على رسالة نبيّه، وهو الذين يجب الرجوع اليه في امر الرسالة واتباع حكمه فيها. {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً}. قل لهم ايها النبي: ليس لي أن أتعدّى حُكم الله، ولا أن أطلب حكَماً غيره يفصل بيني وبينمكم. لقد أنزل القرآن الكريم مفصّلاً واضحاً ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وبيّن في المبادئ الاساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة، كما تضمَن أحكاماً تفصيلية والعلمية. وبهذا وذاك كان في القرآن غَنَاء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة. ويَعلم الذين أوتوا الكتاب أن القرآن منزل من عند الله مشتملاً على الحق، كما بشّرت به كتبهم، لكنهم يحاولون إخفاء ذلك وكتمانه، فلا تكونّن يا محمد انت ومن اتّبعك من الذين يشكون في الحق بعد ان بينّاه. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}. ان حكم الله قد صدر، فتمت كلمات ربك الصادقة العادلة فيما وعدك به من نصر، وأوعد المستهزئين بالقرى، من خذلان. وليس في قدرة أحد أن يغّير كلمات الله وكتابَه، وهو سميع لك ما يقال عليم بكل شيء. قراءات: قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: «منزل» بالتشديد. والباقون «منزل» بالتخفيف. وقرأ الكوفيون ويعقوب «كلمة ربك» والباقون «كلمات» بالجمع.
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} يخرصون: يقولون بالظن، ويكذبون سبيله: طريقه، وهو دين الله القويم. بعد أن أجاب الله تعالى عن شبهات المشركين- قرر هنا أنه لا ينبغي للنبيّ الالتفات الى ما يقوله اولئك الضالّون، لأنهم يريدون أن يُضلوا المؤمنين. وهم لا يتبعون في كلامهم الا الكذب والظن الفاسد. {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ...}. واذا كان الله تعالى هو الحكم العدل الذي يُرجع الى كتابه في طلب الحق ومعرفته، فلا تتبع أيها النبي أنت ومن معك أحدا يخالق قوله الحقَّ، ولو كانوا عدداً كثيراً. إنك إن تفعل، يبعدوك عن طريق الحق المستقيم، لأنهم لا يسيرون الا وراء الظنون والأوهام. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ...}. ان ربك هو العليم بالّذين بعدوا عن طريق الحق، وبمن هو من المهتدين.
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} بعد أن بين الله ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم، لأنهم خراصون ضالون- أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها هي مسألة الذبائح لغير الله. {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ..}. واذا كان الله تعالى هو الذي يعلم المهتدين من الضالين، فلا تلتفتوا أيها المؤمنين الى ضلال المشركين في تحريم بعض الانعام. كلوا منها، فقد رزقكم الله إياها، وجعلها حلالاً لكم، واذكروا اسم الله تعالى عليها عند ذبحها إن كنتم مؤمنين. وكان مشركو العرب وغيرهم من الوثنين وارباب الملل المختلفة يجعلون الذبائح من امور العبادات، ويقرنونها بأصول الدين والاعتقادات، فيتعبدون بذبحها لآلهتهم ولمن قدّسوا من رجال دينهم، وهذا شِرك بالله. {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ}. ليس لكم أي مبرر او دليل يمنعكم ان تأكلوا مما يُذكر اسم الله عليه عند ذبحه من الأنعام ولقد بيّن سبحانه وتعالى المحرَّم في غير حال الاضطرار، كالميتة والدم، بيدَ أن كثيراً من الناس يُضلون غيرهم بأهوائهم الزائفة من غير علم او برهان. قراءات ابن كثير وابو عمرو وابن عامر: «فصل» بضم الفاء، والباقون «فصل» بفتح الفاء وقرأ نافع ويعقوب وحفص: «حرم عليكم» بفتح الحاء، والباقون: «حرم» بضم الحاء. وقرأ الكوفيون: «ليضلون» بضم الياء، والباقون «يضلون» بفتح الياء.
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} ذروا: اتركوا. الاثم: كل ما حرمه الله ظاهر الاثم ما تعلق بالجوارح من الاعمال، والباطل ما تعلق باعمال القلوب، كالكبر والحسد وتدبير المكايد الضارة بالناس. يقترفون: يكتسبون. اتركوا أيها المؤمنون جميع الاعمال المحرمة وابتعدوا عنها، فالتقوى الحقيقة هي في ترك الاثم ظاهره وباطنه، أما الذين يكسبون الإثم فسيُجزَون بما اقترفوا من سيئات. وإذا كانت الأنعام حلالاً لكم بذبحها، فلا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله تعالى عليه عند ذبحه. إن ذلك فسقٌ وخروج عن حكم الله، وإن المفسدين من شياطين الإنس والجن ليُوَسْوِسون في عقول من استولوا عليهم ليجادلوكم بالباطل، علّهم يُقنعونكم بأكل الذبائح التي يذكرون عليهم اسم آلهتهم، او ينحرونها للميسر. ومثل ذلك شأن الميتة، فقد كان المشركون يجادلون المسلمين في تحريمها، ويقولون إن الله ذبحها، فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم، ولا يأكلون مما ذبح الله؟ ان هذا من السخف، فإن قبلتموه وأطعتموهم كنتم مثلهم في الشرك بالله. ونجد الأئمة رحمهم الله قد اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة اقوال: فبعهضم يقول: ان لك ذبيحة لم يُذكر اسم الله عليها او سهواً لا يحِلُّ أكلها مطلقا. وهذا القول مرويُّ عن ابنِ عُمَرَ ومولاه نافع، ورواية عن مالك، وعن احمد بن حنبل ومذهب ابي ثور، وداود الظاهري. والقول الثاني: ان التسمية على الذبيحة ليست شرطاً بل هي مستحبة... فإن تركَها عمداً أو نسياناً لا يضر. وهذا مذهب الإمام الشافعي وجميع أصحابه. وروي ذلك عن ابن عباس وابي هريرة، وعطاء بن رباح، وقالوا: إن النهي كان عن الذبائح التي تذبحها قريش لآلهتهم، أما ترك التسمية فلا يضر. والقول الثالث: إن تَرَكَ التسمية سهواً لا يضر، وان تركها عمداً لم تحل. وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد بن حنبل، وبه يقول ابو حنيفة واصحابه، وهو مروي عن سيدنا عليّ وابن عباس والحسن البصري وغيرهم. قال ابن جرير في تفسيره: اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نُسخ من حكمها شيء ام لا؟ فقال بعضهم: إنها مُحكَمة ولم يُنسخ منها شيء، وقال بعضهم: إنها نُسخت بقوله تعالى: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ}. ثم قال ابن جرير: والصواب: انه لا تنعارُضَ بين حِل طعام أهل الكتاب وبين تحريم ما يُذكر اسم الله عليه. وهذا هو الصحيح. وبعض العلماء يرى أن ما يُذبح عند استقبال مَلِك او أمير حرامٌ، ولا يجوز أكلُه وفي هذا تشديد وتزمُّت، فإن مثل هذه الذبائح حلال، وليست محرّمة، لأن الناس لا يعبدون هؤلاء الذين ذبحوا لهم عند قدومهم. وليس هذا الاستبشار بقدومهم إلا كذبح العقيقةِ للمولود وغير ذلك....
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)} المِثل والمَثل (بفتح الميم وكسرها) الشبهُ والنظير. الأكابر: الرؤساء اصحاب النفوذ. المجرم: فاعل الفساد والضرر. القرية: البلد المكر: الخديعة، وصرف المرء عن مقصده الى غيره بالحيلة. هنا مقارنة فبعد ان بين الله تعالى ان اكثر الناس ضالّون يتّبعون الظن، وأن كثيراً منهم يًضلون غيرهم بغير علم، وكيف أن من الشياطين متمردين على أمر ربهم، يظلّون يوسوسون الى أوليائهم، ويحاولون ان يزعزعا ايمان المؤمنين، كما بيّن الفرق بين المؤمنين المهتدين حتى يقتدي الناس به، والكافرين الضالّين للنفير من طاعتهم والحذَر من غوايتهم- أراد هنا ان يقارن بين الفتئتين فصوَّر لنا صروة تمثيلية بديعة ملخّصها: أفمَن كان ميتاً بالكفر والجهل فأحييناه بالإيمان، وجعلنا له نوراً يسر على هديه في علاقاته بالناس، ويكون به على بصيرة، امر دينه وآدابه- هو في حلا مثل حال ذلك الذي يعيش في ظلام الجهل والكفر، والتقليد الاعمى وفساد الفطرة!! كما زيّن الإيمان في قلوب المؤمنين، زين الشيطان الشِرك في نفوس الظالمين الجاحدين. {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا... الآية}. لا تعجب أيها النبيُّ اذا رأيتَ أكابر المجرمين في مكة يدبّرون الشر ويتفنّنون فيه. إن سنّة الله في الاجتماع البشري قد قضت أن يكون في كل مجتمع زعماء مجرمون يمكُرون بالرسل والمصلحين، لكن عاقبة هذا المكر والإجرام لاحقة بهم، منصّبه عليهم. {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وإن كانوا لا يشعرون بذلك.
{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} الصِّغار: الذل والهوان. يبين الله تعالى هنا تعنُّت المشركين وعنادَهم وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: إن هؤلاء الكبارَ من المجرمين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من علم ونبوة وهدايته، فإذا جاءتهم حجّةٌ قاطعة تتضمن صدقَ الرسول الكريم لا يذعنون لها. بل يقولون: لن نؤمن بها حتى ينزل علينا الوحيُ كما ينزِلُ على الرسل. هكذا قال الوليد بن المغيرة: لو كانت النبوة حقاً لكنتُ أَولى بها من محمد، فأنا أكبر منه سنّاً، واكثر منه مالاً وولدا. وقال ابو جهل: والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبدا، الا ان يأتينا وحي كما يأتيه. وقد رد الله عليهم جهالتهم وبين لهم خطأهم بقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. فالله تعالى وحده هو الذين يعلم من يستحق الرسالة، وهي فضلٌ من الله يمنحه من يشاء، لا ينالها أحد يكسْب، ولا يتّصل إليها بسبب ولا نسب وهي أمرٌ لا يورث حتى ينتقل من والدها الى ولد، ولا فضل لقرابة او اشتراك في الدم. وقد جعلها سبحانه حيث عِلِم، واختار لها اكرم خلقه وأخلصهم، محمدا خير الخلق وخاتم النبيين. ثم أوعد الله المكابرين وبين سوء عاقبتهم لعدم استعدادهم للإيمان فقال: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}. اذا كان هؤلاء يطلبون الرياسة بهذا العناد، فسينالهم الصغار والذل في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، جزاء مكرهم وتدبيرهم السيء. وقد عذّب الله أكبر مجرمي مكة الذين تصدَّوا لإيذاء النبي عليه الصلاة ولاسلام، فقُتل منهم من قتل في بدر، ولحق الصغارُ والهوانُ بالباقين، وسينالهم العذبا الشديد في الآخرة، والعاقبة للمتقين. قراءات: قرأ ابن كثير وحفص (رسالته)، والباقون (رسالاته) بالجمع.
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} شرح الصدر: توسيعه، ويراد به جعل النفس مهيأة لتقبل الحق. الضيَّيِّقِ والضَّيْق (بالتشديد والتخفيف) ضد الواسع. الحرج: شدة الضيق. الحرجة: الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض بحيث يصعب الدخول فيه يصعد في السماء: يرتفع الى أعلى فيضيق نفسه الرجس: كل ما يُستقذر، واللعنة في الدنيا، والعذاب في الآخرة. يوازن الله تعالى في هذه الآية بين الضالِّين المستكبرين، وبين المستعدّين للايمان بما جاء به الرسول الكريم. فيقول: اذا كان أولئك الاشرار قد ضلّوا واهتديتم، فبارادة الله تعالى وقضائه، فمن يكتُب له الهداية يتسع صدرهُ لنور الاسلام، ويستقبله في يسر ورغبة. ومن يكتُب عليه الضلال يجعل صدره ضيّقا شديد الضيق، كأنه من شدة الضيق كمن يصعد الى مكان شديد الاتفاع فتنقضع أنفاسه. بهذا يكتب الله الخذلان على الذين لم يهتدوا. وقد اثتب الداراسات العلمية أنه كلّما ارتفع الانسان أخذ التنقس يضعُف ويضيق لقلّة الاوكسجين في الهواء. وذلك أن الطبقات العليا من الهواء اقل كثافةً من الطبقات التي هي أدنى منها. ولذلك نرى الطائرات الحديثة الآن مكيفةً ومجهّزة بأحدث الاجهزة لوقاية الركاب فيها. {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ}. قراءات: قرأ ابن كثير: «ضَيْقاً» والباقون: «ضّيِقاً» بالتشديد. وقرأ نافع وابو بكر عن عاصم: «حرجا» بكسر الراء، والباقون «حرجا» بفتح الحاء والراء. وقرأ ابن كثير «يصْعَد» بسكون الصاد وفتح العين بدون تشديد، وابو بكر عن عاصم: «يصاعد» بمعى يتصاعد.
|